تلخيص أفكار كتاب البوصلة القرآنية لأحمد خيري العمري.
مقدمة
يبحث الكتاب عن أولويات القرآن وعوامل النهضة على ضوئه، متتبعًا أثرها في وعي الأجيال الأولى عند بعثة الرسول، ثم يدرس أسباب غياب هذه الأولويات -التي كانت بديهية- تدريجيًا من الوعي الإسلامي حتى أصبح الخطاب الديني السائد يمشي بعكسها حسب الكاتب.
كلمة مزلزلة تخرج من الغار
بدأت دعوة الرسول في غار حراء بنزول أول كلمة في القرآن، “اقرأ”، كما نعرف. لم تكن اقرأ مجرد كلمة، بل هي أول أمر شرعي، ومبدأ ينطوي تحته سائر الخطاب القرآني. يستفيض الكاتب بالتدليل على مدى أهمية هذا المبدأ أولًا بتأصيل معنى القراءة الواسع، غير المحصور بالمعنى السطحي من قراءة الكتب الورقية مثلًا، بل الممتد إلى قراءة كتاب الكون المنشور بأكمله وسبر أغواره ودراسة الأسباب والمسببات. لأمية الرسول -الذي لا يقرأ ولا يكتب- هنا دلالة على هذا المعنى الواسع، ومعاني القراءة الغنية من الناحية اللغوية أيضًا تقوي هذا الاستدلال.
جاءت اقرأ كتأسيس لعلاقة جديدة بين الله عز وجل والإنسان، علاقة ليست مبنية على المعجزات الحسية الخارقة لقوانين الطبيعة كما الرسائل السابقة، بل على تصالح مع هذه القوانين؛ علاقة مناسبة لرسالة خاتمة للبشرية جمعاء.
كيف استمر الأمر؟
يتساءل الكاتب بطبيعة الحال عن أسباب قيام حضارة الإسلام والنقلة النوعية التي شهدتها جزيرة العرب في فترة قصيرة: هل الأسباب مادية بحتة؟ هل هي معنوية؟ بل إنها مزيج من هذا وذاك كما كل ظاهرة معقدة. هنا تأتي أهمية البحث التاريخي وربط القرآن -أهم مسبب للنهضة- بالتاريخ والواقع الذي نزل فيه، بدون إلغاء صلاحيته للحاضر، حيث القرآن نفسه يأمر بالبحث التاريخي.
كرست معجزة القرآن للعقل غاية ووسيلة. بينما اعتمدت المعجزات السابقة على متلازمة التحدي - الإعجاز - التسليم، لم يعتمد القرآن على قود العقل وتعطيله من خلال إعجازه، بل اعتمد على زرع أفكار مضادة للمعتقدات الباطلة في ذهون متلقيه، واستنهض العقل مصرًا على مخطابته في ظل مطالبات المشككين بمعجزات حسية تلغيه. أعطى هذا طابع الاستمرارية للرسالة الخاتمة.
سيأتي الاعتراض: وماذا عن معجزات الرسول الحسية إذن التي نقلت لنا؟
يجيب الكاتب أن هذه الحوادث لم تكن معجزات أصلًا، إذ يغيب فيها طابع التحدي ومعظمها حدث على مرأى أشخاص مؤمنين أصلًا. سيادة الخطاب المغيب للعقل جعلت من الضروري وجود معجزات حسية لنبي، لذلك تم توظيف حوادث حقيقية وأخرى موضوعة لهذا الغرض.
بحث الأولون في تحديد ماهية إعجاز القرآن في جوانب ضيقة مثل ألفاظه، لكن المعجزة الحقيقية كانت الإنسان الذي نهض بحضارة بعد تفاعله مع الخطاب القرآني الذي لا يفتأ يحفزه على التفكر.
كيف فعل هذا القرآن؟
التساؤل
أهم فكرة عززها القرآن هي فكرة السؤال والتساؤل، نعم التساؤل. عادة لا تكون فكرة السؤال بدلًا من الجواب مرتبطة بالأديان، لكن الإسلام مختلف، حيث عمد إلى استثمار طبيعة التساؤل في الإنسان لتوجيهها إلى طريق صائب، على عكس الأديان السابقة التي جاءت بإجابات واضحة مغلقة تنهي التساؤل.
أبرز نموذج أصيل يقدمه القرأن عن التساؤل هو نموذج نبي الله إبراهيم عليه السلام، أبي المسلمين، وصاحب المكانة العريقة عند العرب وأهل الكتاب عمومًا، في رفضه لمعتقدات قومه الوثنية وبحثه عمن يستحق العبادة، بدءًا بعبادته للكواكب والشمس والقمر ثم وصوله إلى فاطر السموات والأرض.
لم ينته مشوار تساؤل إبراهيم هنا، إذ استمرت تساؤلاته بعد إيمانه حيث طلب من الله أن يريه كيف يحيي الموتى ليطمئن قلبه.
ثم استخدم إبراهيم السؤال كمعول هدم حين دمر تماثيل قومه إلا كبيرهم وطلب من قومه سؤال الصنم الكبير عمن فعل هذه الفعلة إذا كان ينطق. لقد نجح إبراهيم في زرع السؤال والشك في عقول قومه.
نموذج آخر هو نموذج موسى عليه السلام وسؤاله الجريء لله لرؤيته.
يقدم القرآن نموذجات للتساؤل والشك الموجه المنتهي باليقين كسلوك الأنبياء، وليس الكفار كما قد يتصور البعض.
كان رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام واعيًا بمعنى التساؤل والشك القرآني، كما يظهر في حديث “نحن أحق بالشك من إبراهيم”، حيث لم يتهرب من الاعتراف بأحقيته وأمته بالشك كما شك إبراهيم.
وظف القرآن أيضًا أساليب مختلفة لتركيز فكرة السؤال، منها ما يتمثل في مشاهد يوم الأسئلة العسيرة، يوم القيامة، والتي لا بد أنها رسخت أهمية التساؤل في عقلية المسلم، تساؤل مع النفس في الدنيا قبل الآخرة وقبل فوات الآوان. قوّى من وقع فكرة التساؤل هنا أن عقيدة البعث واليوم الآخر لم تكن موجودة عند الجاهليين كما نعرف، ولم يكن عليها تركيز كبير حتى عند أهل الكتاب، لكن القرآن أعطاها وزنًا مختلفًا وجعلها من أركان الإيمان.
يقدم الكاتب أمثلة أخرى عديدة عن أساليب القرآن المختلفة في طرح التساؤل، منها ما تجسد في آيات توضح قدرة الله مثل (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) و (أفرأيتم ما تمنون ﴿٥٨﴾ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ﴿٥٩﴾)، (أفرأيتم ما تحرثون ﴿٦٣﴾ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ﴿٦٤﴾)، إلخ، أسئلة منها ما يلفت النظر إلى أشياء معتادة لدى المخاطبين (الإبل) لغرض جعلهم ينظرون للأمر بطريقة مختلفة، أو أشياء تمس الجنس البشري بأسره (عملية خلقه) حيث لا مجال إلا أن يقف عندها ويسأل نفسه.
كل ما يعج به القرآن من أمثلة تدفع إلى التساؤل تمس كل جوانب الحياة لا بد أنه كان له أثر على المسلمين الأوائل شكل نقلة نوعية في تفكيرهم.
كان المجتمع الإسلامي الأول مبنيًا على السؤال، حتى نظام الشورى هو سلوك اجتماعي يجسد هذه الفكرة قبل أن يكون سياسيًا كما يتصور عادة. مثل الرسول الكريم هذه الفكرة خير تمثيل بما نقل لنا عن استشارته أصحابه في مختلف جوانب الدنيا، والدين حتى!
لكن للأسف، التساؤل والشك أصبحا من الكلمات الممنوعة عند التيار التقليدي، التيار الذي جير النصوص الدينية لخدمة الواقع بدلًا من مسائلته، فلم يستسغ هذا التيار أن يكون إبراهيم قد شك فنفى شكه، وذهب إلى تعليق رسولنا على هذا الشك وأوله إلى غير معناه الواضح أيضًا.
البحث عن الأسباب
مرحلة التساؤل الذي يهدم المعتقدات البالية ليست الأخيرة، فالتساؤل ليس هدفًا لنفسه، بل هو تجهيز لمرحلة البناء، مرحلة البحث عن الأسباب.
يعطي القرآن مثالًا عن البحث عن الأسباب بشخصية ذي القرنين، الذي مكنه الله في الأرض وآتاه من كل شيء سببًا، فأتبع سببًا. يستدل الكاتب على أن الأسباب التي مكن فيها ذو القرنين هي العلم -التطبيقي-، متمثلًا في استخدامه للحديد والنحاس وعلاقتهما بالمادة وخواصها عمومًا والأسباب والمسببات.
يعطي الكاتب مثالًا عن “الارتقاء في الأسباب” في آية (أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب ﴿١٠﴾) [ص] باعتباره تسخيرًا للأسباب لخدمة البشرية والوصول إلى وحدانية الله.
عزز القرآن علاقة الأسباب والمسببات والغايات أيضًا في مواضع كثيرة جدًا في خطابه، منها آية (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها ۚ كذلك النشور) [فاطر]، دل فيها على علاقة سببية لها أثر على حياة الإنسان، ووضح غايتها ليأكد على الدور الإلهي فيها حيث كل شيء يبدأ عنده.
يذهب الكاتب بعدها إلى مفهوم العقل في القرآن ودلالاته. يلاحظ هنا أن لفظة “عقل” لم تأت في القرآن إلا في صيغة فعل، ويستدل بهذا على أن مفهوم العقل مختلف عن المفهوم الفلسفي اليوناني الذي يتصور العقل كقانون كلي أو كيان مستقل، ومختلف أيضًا عن المفهوم الذي كان سائدًا عند العرب الأقرب من كونه صفة خلقية حميدة قريبة للمروءة. بل جاء القرآن ليرسخ مفهومًا جديدًا للعقل معتمدًا على المعنى اللغوي الأصلي لكلمة عقل، وهو الربط.
جاءت لفظة العقل في مواضع تصف آيات خلق الله الطبيعية وغاياتها، وكانت عبارة “لعلكم تعقلون” المتكررة دعوة للربط بين الأسباب والمسببات لنفهم الغايات ونصل إلى مآل هذا كله. كما جاء في آية (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ۚ ومنكم من يتوفى من قبل ۖ ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون ﴿٦٧﴾) [غافر].
العقل القرآني بجوهره هو أداة تبحث في الظواهر وتربط بين الأسباب والمسببات، ولا ينحصر مجال عمل هذه الأداة في الظواهر الطبيعية فقط، بل يمتد إلى ما أسهب الخطاب القرآني في ذكره من أحوال الأمم السابقة وزوالها، حيث يعطي دروسًا وعبر عن علاقات سببية تمس المجتمع البشري عن قرب أكثر.
يتمد أيضًا مجال العقل إلى كون آخر، كون أكثر قربًا وغموضًا حتى، وهو النفس البشرية، حيث يعج القرآن بآيات تدعو إلى مراقبة النفس ومساءلتها وتوضح سبل الهدى المبنية على علاقات سببية (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
أسس القرآن لتسلسل مكون من الطبيعة، والمجتمع، والفرد، تسلسل متداخل بمبدأ السببية، حيث لا يكون البحث في أسباب الطبيعة إلا من خلال نفس واعية، ولا تكون هذه النفس إلا نتيجة مجتمع متغير.
لكن كما حدث مع مبدأ التساؤل، فقد تصدت الرؤية السائدة لمبدأ الأسباب عقائديًا وفقهيًا. بدأ الأمر من السياسة في التاريخ الإسلامي المبكر وتكريس بعض السلطات لمسألة الفعل الإلهي والجبر الذي استغل لتبرير الظلم والاستبداد. لم يقف الأمر عند السياسة، فقد تدرج إلى أن طال الحياة الشخصية للأفراد وتغلغل في معتقداتهم وانسحب أيضًا على الطبيعة وظواهرها ونفى البعض مبدأ السببية كليًا.
من العلماء الذين أنكروا مبدأ السببية هو الإمام أبو حامد الغزالي، حيث أنكر أن تكون هناك علاقة ضرورية بين السبب والمسبب، فالنار لا تحرق والماء لا يروي العطش، وإنما كل شيء يجري مجرى العادة، كان ممكن أن يكون أو ألا يكون. يلاحظ الكاتب أن إنكار السببية يلغي معنى المعجزات التي دافع عنها الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة): “فما المعجز في كون النار لم تحرق إبراهيم إذا كانت لا تحرق حتى القطن؟”. بينما كانت المعجزة في القرآن مرتبطة بمبدأ السببية، حيث هي اختراق وتحدي له. يستعرض الكاتب أيضًا اعتراضات ابن رشد وابن تيمية على إنكار السببية، ويلاحظ أن مذهب اللاعقل، مذهب إنكار السببية، قد انتصر في النهاية وساد على الأمة.
الإيجابية
يمكن اختصار ما أحدثه القرآن في نفوس متلقيه في كلمة واحدة: الإيجابية؛ الرغبة في التفاعل مع العالم المحيط وتغييره بدءًا بالنفس.
نهضة الجزيرة العربية في فترة قصيرة كانت لها أسبابها المادية طبعًا (ضعف القوتين العالميتين المسيطرتين معًا آنذاك؛ الفارسية والرومية) لكنها لا تكفي لتفسير مغزى المعجزة التي حصلت.
أوصل القرآن فكرة الإيجابية من خلال قصة أيضًا، هذه المرة قصة تخاطب رسولنا بصيغة أقرب، إنها قصة صاحب الحوت يونس. وردت القصة في فترة مبكرة من دعوة الرسول كأول قصة لنبي لتثبت فؤاده في فترة لا بد أنه كان يعاني فيها مما عاناه صاحب الحوت من يأس من تكذيب قومه: (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم ﴿٤٨﴾) [القلم].
فر يونس من قومه يأسًا لكنه اصطدم بالقيم الجاهلية نفسها التي كان يحاربها (استخدام فكرة مثل القرعة لتحديد الشخص الذي يجب أن يطرح من السفينة)، إذ لا مفر من مواجهة الأفكار. وكان الحوت الذي التقمه رمزًا لكل مفاهيم الظلم البشري، حيث القوي يأكل الضعيف اليآس المستسلم لواقعه كما يلتهم الحوت السردين. تراءى ليونس هنا أنه ليس الجلاد ظالمًا فحسب، بل الضحية ظالمة باستسلامها للجلاد: (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ﴿٨٧﴾) [الأنبياء]. خرج يونس من بطن الحوت برؤية جديدة فعالة، كيقطين مثمر (وأنبتنا عليه شجرة من يقطين)، جعلته يؤمن بجدوى العمل وإمكانية التغيير.
مر رسولنا بما مر به يونس من محاربته مفاهيم قومه الجاهلية، وكان من الممكن أن يلتقمه حوت من نوع آخر أيضًا. كان هذا في فترة مبكرة جدًا من الدعوة وفترات لاحقة. لا بد أن الرسول ربط بين تجربته وتجربة يونس، حيث نقل لنا عنه أنه قال مثلًا: (لا يقولن أحدكم إني خير من يونس).
تتعارض هذه النظرة الإنسانية إلى النبي مع الرؤية التقليدية التي تستنكر أن يصدر من الرسول ما يوحي بالتردد والحيرة.
ينتقل الكاتب بعدها إلى تقديم إسقاط معاصر للحوت: حوت العولمة والحضارة الغربية التي تفرض نفسها على المجتمعات بقوة الإعلام والسلاح، وتركض مجتمعات أخرى إلى تقليدها، وتفاعل الفرد المسلم مع هذا الحوت من أحاسيس يأس من محاولة التصدي والمجابهة.
يتوسع الكاتب بعدها في أسباب نهوض حضارة جزيرة العرب ذات الظروف القاسية ودور الظروف الصعبة في استفزاز البناء الحضاري. لكن ما الذي منع العرب من النهوض كل هذا الوقت قبل نزول القرآن؟ إنه سلبيتهم، استسلامهم للظروف. تمثلت هذه السلبية في جوانب عدة منها احتقارهم للعمل اليدوي وحصر أنفسهم في عملين: الرعي والتجارة. وهي أعمال درت على العرب أرباح كثيرة بدون عمل حقيقي ذي معنى اجتماعي حسب الكاتب. ساعدتهم ظروف مثل موقع الجزيرة العربية الاستراتيجي في التجارة، ومعجزة حيوان الإبل الصبور في الرعي ونواحِ شتة.
ثم استجد شيء ما في جزيرة العرب: إنه القرآن الكريم.
تصدى الخطاب القرآني لسلبية العرب بطريقة دقيقة بتكرار عبارات تبدو عادية لنا لكنها قد تكون حملت معنى خاصًا للجاهلي، عبارات مثل “ما كسبت أيديكم” مثلًا، أتت في سياق الثواب والعقاب بسبب ما عملت هذه الأيدي. كان هذا صادمًا لمجتمع معتمد على مفاهيم مثل المفاخرة بالحسب والنسب. ثم جاء أيضًا كلام القرآن عن تكلم الأيدي (تكلمنا أيديهم) وربطه بضرورة الشكر. ألفاظ أخرى استخدمت على هذا الصعيد هي “الفلاح” (قد أفلح المؤمنون) و”الحرث”، والمرتبطتين بالزراعة طبعًا، والتي كان يحتقرها العرب. استخدام الفلاح والحرث وتصوير ثمار الجنة وزرعها كان له أثر في تغيير النظرة للعمل اليدوي تدريجيًا.
إيجابية التوحيد
التوحيد بمفهومه الواسع هو مفهوم إيجابي استخدم لمحاربة السلبية أيضًا، فما يبدو لنا كمفهوم مجرد مكون من مجموعة أوامر ونواهي مثل الاعتقاد بالله إلهًا واحدًا وعدم عبادة الأوثان والامتناع عن الذبح لغير الله.. إلخ، استخدم لمحاربة ظواهر اجتماعية والتحرر منها لإنشاء تغيير جذري في بنية المجتمع. فتمسك العرب بعبادة الأوثان لم يكن نابعًا من إيمان وعقيدة، بل عن تمسك بقيم اجتماعية واقتصادية. فمثلًا التخلي عن الأصنام المتعددة بتعدد القبائل كان بمثابة تخلي عن خضوع العربي لبيئته، وإلغاء نظام القرابين المعقد -المعتمد على مصالح تجارية- كان إلغاءً لطبقة الكهنة. لكن أقسى قطيعة أمرت بها عقيدة التوحيد هي إلغاء سلطة الماضي متمثلة في الآباء والإرث والتراث من دم ونسب وتاريخ. ينقل لنا القرآن مشاهد كثيرة من احتجاج الجاهليين بما وجدوا عليه آباءهم وتمسكهم به وتصدي القرآن لهذا الفكر، مثّل الرسول هذا في قوله “إن أبي وأباك في النار” والتي قصد بها القطيعة مع الماضي.
متلازمة الإيمان والعمل الصالح
وظف القرآن متلازمة (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) المتكررة كثيرًا لرفع مكانة العمل لدرجة تضاهي الإيمان نفسه. يستدل الكاتب من نزول معظم مرات ورود هذه المتلازمة في الفترة المكية، فترة اضطهاد المؤمنين ومحاربة إيمانهم قبل عملهم، على أن هذه المتلازمة هي بمثابة تفسير لماهية الإيمان الحقيقي. قدم القرآن مفهومًا جديدًا للعمل الصالح كمجال اجتماعي مفتوح له أجر أخروي مقابل الرؤية الجاهلية للعمل من كونه فرديًا وآنيًا ومعتمدًا على مفاهيم الفخر والجاه.
يدا الله
أكبر ضربة وجهها الخطاب القرآني لمفاهيم الجاهلية المحتقرة للعمل اليدوي هي إعطاء صورة الإله الذي يعمل بيديه (بعيدًا عن التشبيه): (لما خلقت بيدي)، (مما عملت أيدينا)، إلخ.
دلالات من هود وأخواتها
يأتي الكاتب هنا إلى استخراج دلالات قول الرسول “شيبتني هود وأخواتها” (سور هود ويوسف ويونس). نزلت هذه السور في فترة مكية متأخرة زاد فيها ضغط قريش على المؤمنين. نقلت لنا سورة هود صورة النبي نوح ومناجاته لابنه الكافر لكي يصعد معه بالسفينة ورؤية نوح لهلاك الآخر. لا بد أن رسولنا استشعر هذه الصورة المفجعة على تجربته هو مع تكذيب أقربائه بدعوته. كما أنه قارن بين تشابه حالة قومه والأقوام السابقة التي هلكت بعد تكذيبها برسلها، والتي نقلت لنا سورة هود من قصصهم العديد. كان الرسول يتساءل بقلق عن مصير قومه حتى جاءت آية (وانتظروا إنا منتظرون [122]) [هود] لتعزز من مخاوفه.
لكن فجأة نزلت سورة يوسف لتقلب المعادلة، سورة ليس فيها وعيد أو شيء من هذا القبيل، بل قصة حلم طفولي يتحقق بعد فترة يأس تبعتها إيجابية. غيرت هذه السورة تفكير الرسول لكي يؤمن أن هناك طريقا آخر غير العذاب الإلهي، طريق النجاح والتمكين في الأرض، ربما في أماكن أخرى خارج مكة كما حدث ليوسف في مصر.
نبتة الصبر القرآنية
الصبر هو أيضًا مفهوم مصبوغ بالإيجابية يمكن استخراجها بدءًا من معناه اللغوي المشتق من نبتة الصبار وتحملها للظروف القاسية إلى سياقاته القرآنية التي تؤسس لهذا المفهوم الإيجابي من خلال قصص أولي العزم من الرسل. إنه صبر العمل والتغيير، وليس صبر الخنوع والاستسلام للواقع كما يروج له.
مشيئة الفرد
كان مجتمع الجزيرة العربية مبنيًا على العلاقات القبلية لا مكان للفرد وإرادته فيه. حارب الخطاب القرآني مفاهيم تلغي الفردية بتأكيده مرارًا وتكرارًا على مشيئة الفرد وإمكانيته الاختيار (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).
لكن القرآن أيضًا أكد على مشيئة الله المطلقة المهيمنة على غيرها… هل من تعارض؟ لا. إنما مشيئة الفرد مرتبطة ومنطوية تحت مشيئة الله لا تتعارض معها (ما تشاؤون إلا أن يشاء الله). استمدت مشيئة الفرد المؤمن إيجابية وقوة من صفات الله عز وجل مطلقة الإيجابية من عدل وخير.. إلخ.
تعامل الرؤية السائدة مع قول رسولنا حول يونس
تعاملت الرؤية السائدة مع قول رسولنا (لا يقولن أحدكم إني خير من يونس) كتعاملها مع تعليقه على شك إبراهيم: بالتأويل وإنكار أن يوحي الرسول أنه ببشريته وإمكانية إظهاره الضعف.
الرؤية السائدة تنفي العصمة عن الأفراد نظريًا لكنها عمليًا تطبق العكس حتى على من هم دون الأنبياء من الصحابة والأئمة والعلماء. بينما مثل لنا الرسول صورة مختلفة، صورة إنسانية يمكن الاقتداء بها.
اختزال الإيمان والعمل الصالح
تعرضت ثنائية الإيمان والعمل الصالح إلى عملية اختزال جعلت مفهوم العمل يركز على الشعائر والطقوس والأركان بالذات مجردة من أبعادها الاجتماعية التي رسخها الخطاب القرآني. بدأ الأمر من السياسة وتبرير أخطاء الأمراء والسلاطين ما داموا يؤدون الشعائر.
الحياد السلبي في مسألة القدر
وسط المذاهب المتطرفة في مسألة القدر (القدرية والجبرية)، حاولت النظرة التقليدية اتخاذ موقف وسطي بالتوفيق بين النصوص، وكان هذا صعبًا مع مؤسسة تمارس تأؤيلاتها من نصوص مجتزأة ورؤية غير شاملة.
كان عرب الجاهلية أقرب إلى مذهب الجبرية كما نعرف بشكل صريح من آيات قرآنية (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء).
فهم مسألة القدر في القرآن يجب أن يكون بطريقة شمولية ضمن سياقات الآيات. فشلت الرؤية التقليدية بتوفير شرح مفهوم لمسألة في غاية الأهمية تمس كل فرد بسبب غرقها وسط مصطلحات وتعريفات فلسفية بعيدة عن روح القرآن ورغبتها الأساسية في الرد على الفرق الأخرى وليس التحقيق العلمي. نتج من هذه الرؤية الغامضة إنسان متواكل يبرر تخلفه بالقدر.
ماذا حل بالصبر
تحول الصبر أيضا من مفهوم إيجابي لتغيير الواقع الذي يجب تغييره إلى أداة للاستسلام له وتحمله.
الحس المقاصدي
تشتت مفاهيم جزيرة العرب
كانت جزيرة العرب في حالة تشتت على كافة الأصعدة الاجتماعية والسياسية والعقائدية. نشأ من هذا التشتت فرد لا رؤية واضحة له ولا يعرف غاية وجوده. وكان غياب قصة الخلق من عقائد الجاهليين انعكاسًا لهذا التشتت وغياب المعنى. لم تكن عقيدة الشرك مجرد عبادة أوثان أو عدة آلهة فقط، بل كان لها تداعيات اجتماعية مدمرة كما قص علينا القرآن، جاءت عقيدة التوحيد لتعطي الإنسان طريقًا واحدًا يسير عليه.
قصة الخلق القرآنية
كانت قصة الخلق القرآنية متميزة عن غيرها حتى مقارنة بالقصة التوراتية، فقد أوردت تفاصيل أعادت بناء رؤية الإنسان لنفسه: سجود الملائكة للإنسان وخلافته في الأرض. شكل هذان التفصيلان رؤية جديدة ترفع من قدر الإنسان وتعطي له مكانة مميزة عن غيره من خلق الله.
للاستخلاف معانٍ واسعة تقوم على إحقاق الحق وتجسيده في كل فعل. قدم القرآن شرطين للاستخلاف في الأرض: الإيمان والعمل الصالح. لا تتعارض أهمية الاستخلاف مع كون هدف خلق الله للإنسان هو العبادة (إلا ليعبدون)، فالعبادة مفهوم واسع لا يقتصر على الشعائر.
بقرتنا التي لا نكاد نذبحها
يرسم الكاتب مقارنة بين بقرة بني إسرائيل التي أمرهم الله بذبحها لكنهم خاضوا في تفاصيل غير مهمة وبين وضعنا مع تفاصيل العبادات وكثرة خلافاتنا وجدلنا حولها لدرجة نسيان المقصد.
جاءت قصة البقرة في السورة التي تحمل الاسم نفسه وجاء فيها تشريع لشعائر وحدود عديدة. كانت هذه إشارة إلى الاهتمام بالمقاصد وعدم إهمالها مع الغرق بالتفاصيل.
مقاصد العبادات
يأخذ الكاتب شعيرة الصلاة كمثال عن مقاصدية العبادات في الإسلام. الصلاة عبادة مطبوعة بطابع اجتماعي حتى لو صلاها المرء فردًا (فهو يتحدث بها بصيغة الجمع)، إنها عبادة بمواقيت محددة تجعل المجتمع في حالة مراقبة واستحضار دائمة تنهاه عن الفحشاء والمنكر.
فقه عمر المقاصدي
يأخذ الكاتب عمر بن الخطاب كمثال عن شخص وعي مقاصد القرآن بشكل ممتاز لدرجة أنه وافق حكم القرآن قبل نزوله عدة مرات. كان هذا ناتجًا عن رؤية عمر الشمولية للنصوص ومقاصدها وسياقاتها.
القراءة المقاصدية للنصوص
لم يحظ فقه المقاصد بكثير من العناية في الفكر الإسلامي للأسف، وحتى المصادر الأساسية، القرآن والسنة، عوملت بطريقة تعتبر كل نص متساويًا مستقلًا عن الآخر منفصلًا عن الواقع والسياق والمقصد. نتج عن هذا أن صار متقبلًا أن تنسخ السنة القرآن مثلًا لغياب الآلية الاستقرائية التي تربط بين النصوص حسب سياقاتها ومقاصدها. الفهم المقاصدي ينطلق من أساسيات الخطاب القرآني ويعرض النصوص عليها، سواء نصوص قرآنية أخرى أو نصوص نبوية. يقدم الكاتب مثالًا عمليًا عن الفرق بين الرؤيتين حول حكم الاقتصاص من مسلم إذا قتل كافرًا مسالمًا.
آلية القياس وتعريف العلة
ارتباط آلية القياس المباشر بالرؤية التجزيئية منعه من أن يكون أداة مقاصدية فعالة. يمكن تمثيل هذا الارتباط بالخلاف على مسألة العلة وتعريفها وما إذا كانت العلة موجبة للحكم، والذي كان بدوره امتدادًا لخلاف عقائدي مرتبط بعدة مسائل أكبرها مسألة التخيير والتسيير الجدلية بامتياز.
نهاية، تم نفي المقاصد كما تم نفي الأسباب من قبل البعض.
ضرورة التجديد
يعطي الكاتب أمثلة عن أحكام شرعية معتمدة على نصوص قد يختلف الحكم فيها إذا أسقطناها على واقعنا المعاصر ومقاصد القرآن، دون أن يعني هذا إلغاءها، بل قراءتها قراءة شمولية، ويشدد على أن التجديد لا يعني التفلت.
كيف انتهى الأمر؟
بداية الانتكاسة
كانت هناك لحظات انتكاسة في تاريخنا الإسلامي ما زال لها تأثير حتى يومنا هذا. ساعد هذه اللحظات في بسط تأثيرها ضعف المفاهيم الإيجابية المضادة واستمرارها. تغلغلت هذا اللحظات السلبية باستغلالها الدين من أجل السياسة.
بدأ هذا كله من “فكر الطلقاء”، المرتبط بالمؤلفة قلوبهم الذين عفا عنهم الرسول وأسلموا عند فتح مكة. كانت مرتبة الطلقاء في ذيل مراتب المجتمع الإسلامي وكانت سلطتهم ضعيفة إلى أن اغتيل الخليفة عمر وحصل الخلاف في موضوع اختيار الخليفة بين علي وعثمان حتى وقع الاختيار على عثمان. لم يتم استثمار فكرة الشورى أكثر في عهد عثمان وتمكنت “القرابة الأموية” من استغلال صفات عثمان الإيجابية غير الصارمة لزيادة سلطتها. ثم اشتد الأمر وحصلت الفتنة وصعد معاوية بن أبي سفيان إلى الحكم.
يناقش الكاتب هنا الاعتراضات المعتادة عن الخوض في أحداث الفتنة وما حصل بين الصحابة. ويرى أن الحساسية في هذا الموضوع لا داعي لها، فالقرآن يدعونا لتقصي الحقائق والقوامة بالعدل حتى على أنفسنا، كما أن البحث في المسألة لا يمكن استغلاله من قبل “الطرف الآخر” (الشيعي) لانتقاد فترة أبي بكر وعمر ما دام محل المسألة هو الفترة الأموية التي كانت نكسة مقارنة “بالمعيار” الذي هو الفترة الراشدة عند أهل السنة.
يدخل الكاتب هنا حقل الألغام ويبدأ من فكرة “الجبر السياسي” والتي هي امتداد للجبر الجاهلي، والذي أعاد إحياءه فكر الطلقاء متجسدًا في معاوية. يستشهد هنا بعدة أحداث تاريخية معتمدًا على مصادر موثوقة مثل صحيح البخاري، منها حادثة لمعاوية مع ابن عمر حيث تكلم معاوية عن “حق” له بالخلافة على حساب الجميع، وحادثة أخرى عن دعاء نبوي وظفه معاوية لترسيخ فكرة أن سلطته عطية إلهية لا مانع لها. تمكنت السلطة من سلب المجتمع المسلم المرهق من الحرب الأهلية من إيجابيته تدريجيًا، من خلال قوة السيف واستغلالها لنصوص مقدسة مجتزئة.
يشدد الكاتب على أن الهدف من نقاش المسألة ليس تجريم شخوص معينة مثل معاوية بالتحديد. مجرد الأمر هو أن تلك الفترة كانت آثارها السلبية أكثر من الإيجابية وكانت بداية الانحطاط والاستبداد الذي استمر واشتد أكثر بعد فترة معاوية لدرجة أن أغلب من أتى بعده كان أسوأ منه. كما أنتجت كل هذه الأحداث، خصوصًا خصومة معاوية وعلي ابن أبي طالب وسب الأخير على منابر الأمويين، غلوًا مضادًا تضخم تضخمًا نرى آثاره اليوم.
كانت أكبر انتكاسة لتلك الفترة أنها كانت بداية قتل أسس الخطاب القرآني: التساؤل بالاستبداد، الإيجابية بالجبر، الحس المقاصدي باجتزاء النصوص لغير مقاصدها.
مشروع النهضة
يقدم الكاتب هنا قراءة لسورة الكهف بوصفها سرد لمراحل مشروع النهضة وتشكل الأفكار ونموها لتشكل ثورات. ففتية الكهف هم بمثابة الجيل اليافع الذي يرى أخطاء مجتمعه ويؤمن بفكر جديد نقي، لكن هذا الفكر غير مؤهل بعد لمواجهة مؤسسات المجتمع القائمة، لذلك على أصحابه أخذ قرار الاعتزال إلى حين أن يأتي موعد سطوعه.
يمكن فهم قصة الرجل المؤمن والرجل الكافر أيضا كامتداد لفتية الكهف ومرحلة إيمان أكثر نضجًا وتحديدًا للثوابت ومرحلة مواجهة الفكر المضاد.
بعد مرحلة البناء النظري تأتي مرحلة الانطلاق إلى الواقع متجسدة في قصة موسى والعبد الصالح. كانت الأحداث التي مروا بها تمثيلًا لرؤيتين مختلفتين: الرؤية التجزيئية التي تأخذ الأمور كما هي، والرؤية الشمولية التي تنظر إلى ما وراء المرئي بالنظرة السطحية.
ثم تأتي مرحلة الذروة، مرحلة التمكين متجسدة في ذي القرنين وقوته المستمدة من الأخذ بالأسباب ورؤيته المتوازنة للواقع. كانت الحضارات التي زارها ذو القرنين أيضا تجسيدات لقيم يمكن إسقاطها على واقعنا. كانت حضارة العين الحمئة رزمًا لكل الحضارات التي قد تكون قوية ماديًا لكنها على حافة الانحطاط الأخلاقي. كان محور تواصل ذي القرنين مع هذه الحضارة هو فكرة الثواب والعقاب. على الجانب الآخر، هناك حضارة مطلع الشمس، رمز الحضارات الناشئة في فترة التكوين، والتي لم يكن هناك محور تواصل لذي القرنين معها لانعدام الاستقرار وعدم تطور آليات الحضارة فيها بعد. ثم هناك حضارة في المنتصف، حضارة عزلت نفسها عن العالم الخارجي ومعادلة الحضارة، إنهم يأجوج ومأجوج. فقدت هذه الحضارة مقومات التواصل مع الحضارات الأخرى لانعزالها على نفسها حفاظًا على ما لديها. كانت تسمية “يأجوج ومأجوج” إشارة إلى النشاط الداخلي غير المثمر في نفوس أفراد هذه الحضارة.
حكاية ذي القرنين هي تذكير لنا بمبادئ النهضة وما نفتقده منها، مبادئ إنزال الفكر على أرض الواقع وإثبات صلاحيته حتى يتم التمكين.